اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . logo       إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه. لا بأس أن يكتب المسلم اسمه في طرة المصحف (جانبه) مخافة اشتباه مصحفه بغيره، فقد لا يناسبه إلا مصحفه المخصص له، ولا بأس أن يكتب بعض الفوائد على الهوامش كتفسير كلمة أو سبب نزول أو ما أشبه ذلك. إذا كان عقل المريض معه وفهمه وإدراكه فإن الأوامر والأحكام الشرعية تنطبق عليه، ويكلف بالصلاة والصوم والطهارة ونحوها بحسب القدرة، ويجوز مساعدته على الطهارة إن قدر على غسل أعضائه، فإن عجز عن استعمال الماء في أعضائه وشق غسلها عليه عدل إلى التيمم، فإن عجز فإن المرافق يقوم بذلك بأن يضرب التراب فيمسح وجهه وكفيه مع النية. شريعة الإسلام شريعة واسعة كاملة، اشتملت على كل ما تمس إليه حاجة البشر، حاجة الذكور والإناث في الدنيا وفي الآخرة، فذكر الله تعالى نساء الدنيا وجعل لهن أحكاما، وذكر النساء في الآخرة وذكر ثوابهن كثواب الرجال المؤمنين، وفي هذا تمام العدل والحكمة
shape
شرح كتاب العظمة المجموعة الثالثة
98326 مشاهدة print word pdf
line-top
ذكر إرم ذات العماد

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال -رحمه الله تعالى- ذكر إرم ذات العماد
قال: حدثني أبي -رحمه الله تعالى- قال: حدثنا أحمد بن مهدي قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني عبد الله بن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن وهب بن منبه -رحمه الله تعالى- عن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له نشزت فبينما هو في صحاري عدن أبين والشجر تظلله في تلك الفلوات إذ وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن، حول ذلك الحصن قصور كثيرة وأعلام طوال، فلما دنا منها ظن أن فيها أحدا يسأله عن إبله، فإذا لا خارج يخرج من باب حصنها ولا داخل يدخل منه.
فلما رأى ذلك نزل عن ناقته وعقلها ثم استل سيفه ودخل من باب الحصن، فلما خلف الحصن إذا هو ببابين عظيمين لم ير في الدنيا شيء أعظم منهما ولا أطول، وإذا خشبهما محمر وفي ذينك البابين مسامير من ياقوت أبيض وياقوت أحمر يضيء ذانك البابان فيما بين الحصن والمدينة.
فلما رأى ذلك الرجل أعجبه وتعاظمه الأمر، ففتح أحد البابين ودخل فإذا هو بمدينة لم ير الراءون مثلها قط، وإذا هي قصور على كل قصر معلق تحته أعمدة من زبرجد وياقوت، ومن فوق كل قصر منها غرف وفوق الغرف غرف مبنية بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وكل مصاريع تلك القصور وتلك الغرف مثل مصراعي باب المدينة من حجر كلها مفصصة بالياقوت الأبيض والياقوت الأحمر متقابلة بعضها ببعض.
ينور بعضها من بعض، مفروشة كلها تلك القصور وتلك الغرف باللؤلؤ وبنادق من مسك وزعفران، فلما عاين الرجل ما عاين ولم ير فيها أحدا ولا أثر أحد، وإنما هو شيء مفروغ منه بناء لم يسكنه أحد ولم ير أثرا لأحد من الناس إلا عصا حديدة أهاله ذلك وأفزعه.
ثم نظر إلى الأزقة فإذا هو بالشجر في كل زقاق منها قد أثمرت تلك الأشجار كلها، وإذا تحت تلك الأشجار أنهار مطردة يجري ماؤها من قنوات من فضة كل قناة منها أشد بياضا من الشمس، تجري تلك القنوات تحت الأشجار وداخل الرجل العجب مما رأى.
وقال: والذي بعث محمدا -صلى الله عليه وسلم- بالحق ما خلق الله تبارك وتعالى مثل هذه في الدنيا، وإن هذه للجنة التي وصف الله -عز وجل- ما بقي مما وصف الله تبارك وتعالى شيء إلا وهو في هذه المدينة، هذه الجنة الحمد لله الذي أدخلنيها سائر على ذلك يؤامر نفسه ويتدبر رأيه، إذ دعته نفسه أن يأخذ من لؤلؤها وياقوتها وزبرجدها ثم يخرج حتى يأتي بلاده ثم يرجع إليها.
ففعل فحمل معه من لؤلؤها ومن بنادق المسك والزعفران، ولم يستطع أن يقلع من زبرجدها شيئا ولا من ياقوتها لأنها مثبتة في أبوابها وجدرانها، وكان ذلك اللؤلؤ والبنادق من المسك والزعفران منثورا في تلك الغرف والقصور كلها، فأخذ ما أراد وخرج إلى ناقته فحل عقلها وركبها ثم سار راجعا يقفو أثر ناقته.
حتى رجع إلى اليمن فأظهر ما كان معه فأعلم الناس أمره وما كان من قصته، وباع بعض اللؤلؤ وكان ذلك اللؤلؤ قد اصفر من طول مرور الليالي والأيام عليه، فلم يزل أمر ذلك الرجل ينمو ويخرج حتى بلغ أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فأرسل رسولا وكتب إلى صاحب صنعاء يأمره أن يبعث له الرجل ليسأله عما كان من أمره.
فخرج به رسول معاوية بن أبي سفيان من اليمن حتى قدم به الشام وأمر صاحب صنعاء الرجل أن يخرج ببعض ما جاء به من متاع تلك المدينة فسار الرجل ورسول أمير المؤمنين حتى قدم على معاوية فخلى به أمير المؤمنين وسأله عما رأى وعاين.
فقص عليه أمر المدينة وما رأى فيها شيئا شيئا، فأعظم ذلك معاوية وأنكر ما حدثه، وقال: ما أظن ما تقول حقا فقال الرجل: يا أمير المؤمنين هي من متاعها الذي هو مفروش في قصورها وغرفها وبيوتها قال: ما هو؟ قال: اللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران فقال له معاوية هات حتى أراه فأراه لؤلؤا أصفر من أعظم ما يكون من اللؤلؤ وأراه تلك البنادق فشمها معاوية فلم يجد لها ريحا.
فأمر بدق بندقة من تلك البنادق فسطع ريحها مسكا وزعفرانا فصدقه معاوية عند ذلك وقال: كيف لي حتى أعلم ما اسم هذه المدينة ومن بناها ولمن كانت فوالله ما أعطي أحد مثل ما أعطي سليمان بن داود -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- وما ملك سليمان مثل هذه المدينة.
فقال بعض جلساء أمير المؤمنين: يا أمير المؤمنين إنك لن تجد خبر هذه المدينة عند أحد من أهل الدنيا في زماننا هذا إلا عند كعب الأحبار فإن رأى أمير المؤمنين أن يبعث إليه ويأمر بأن يغيب عنه هذا الرجل فإنه سيخبر أمير المؤمنين بأمره وأمر هذا الرجل إن كان دخلها؛ لأن مثل هذه المدينة على مثل هذه الصفة لا يستطيع هذا الرجل دخولها إلا أن يكون قد سبق في الكتاب الأول دخوله إياها.
فابعث إلى كعب فإنه يا أمير المؤمنين لم يخلق الله -عز وجل- أحدا على ظهر الأرض أعلم منه ولا من مضى من الدهر ولا يكون من بعد اليوم إلا وهو في التوراة مفسرا منسوبا معروفا مكانه، فليبعث إليه أمير المؤمنين فإنه سيجد خبرها عنده فأرسل معاوية رضي الله عنه إلى كعب الأحبار -رحمه الله تعالى-.
فلما أتاه قال له أمير المؤمنين: يا أبا إسحاق إني دعوتك لأمر رجوت أن يكون علمه عندك قال كعب يا أمير المؤمنين، على الخبير سقطت فسلني عما بدا لك قال: أخبرني يا أبا إسحاق هل بلغك أن في الدنيا مدينة مبنية بالذهب والفضة وعمدها زبرجد وياقوت وحصباء قصورها وغرفها اللؤلؤ فيها أجنتها وأنهارها في الأزقة تحت الأشجار والأنهار.
قال كعب والذي نفس كعب بيده لقد ظننت يا أمير المؤمنين أني سَأُوسد يميني قبل أن يسألني أحد عن تلك المدينة وما فيها ولمن هي، ولكن أخبرك بها ومن بناها ولمن هي؛ أما تلك المدينة فهي حق كما بلغ أمير المؤمنين وعلى ما وصف له، وأما صاحبها الذي بناها فشداد بن عاد .
وأما المدينة فإرم ذات العماد التي وصف الله -عز وجل- في كتابه المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وهي كما وصف لك لم يبن مثلها في البلاد.
فقال معاوية حدثنا بحديثها يا أبا إسحاق -يرحمك الله- قال أبو إسحاق أخبرك يا أمير المؤمنين، إن عادا الأولى ليس عادا قوم هود ولكن عادا الأولى إنما هو هود وقوم هود ولد ذلك فكان عاد له ابنان فسمى أحدهما شديدا والآخر شدادا فهلك عاد فبغيا وتجبرا وملكا فقهرا كل البلاد وأخذاها عنوة وقسرا حتى دان لهما جميع القبائل حتى لم يبق أحد من الناس في زمانهما إلا وهو في طاعتهما لا في مشرق الأرض ولا في مغربها، وإنه لما صفا لهما ذلك وقر قرارهما مات شديد وبقي شداد فملك وحده ولم ينازعه أحد ودانت له الدنيا كلها بأسرها فكان مولعا بقراءة الكتب الأولى الفانية.
وكلما مر فيه بذكر الجنة وما سمع مما فيها من البنيان واللؤلؤ والياقوت دعته نفسه أن يقلد تلك الصفة في الدنيا عتوا على الله -عز وجل- وكبرا فلما وقر ذلك في نفسه والذي يريد أمر بصنع تلك المدينة إرم ذات العماد وأمر على صنعها مائة قهرمان مع كل قهرمان مائة ألف من الأعوان قال: انطلقوا إلى أطيب فلاة في الأرض وأوسعها فاعملوا لي فيها مدينة من ذهب وفضة وياقوت وزبرجد ولؤلؤ والتي تحت تلك المدينة أعمدة من زبرجد وعلى المدينة قصور ومن فوق القصور غرف ومن فوق الغرف غرف.
واغرسوا تحت القصور في أزقتها أصناف الثمار كلها وأجروا فيها الأنهار حتى يكون تحت الأشجار، فإني أسمع في الكتاب صفة الجنة فأنا أحب أن أجعل مثلها في الدنيا، أتعجل سكناها فقال له قهارمته وكانوا مائة قهرمان تحت يد كل قهرمان منهم ألف من الأعوان: كيف لنا أن نقدر على ما وصفت لنا من الزبرجد والياقوت واللؤلؤ والذهب والفضة، تبني منه مدينة من المدائن كما وصفت لنا متى نقدر على هذا الذهب كله وهذه الفضة فقال لهم شداد أليس تعلمون أن ملك الدنيا كلها بيدي قالوا بلى.
قال: فانطلقوا إلى كل شيء في الدنيا من معدن من معادن الزبرجد والياقوت أو بحر فيه لؤلؤ أو معدن ذهب أو فضة ووكلوا به من كل قوم رجلا يخرج لكم ما كان في كل معدن من تلك البلاد، ثم انطلقوا فانظروا إلى ما كان في أيدي الناس من ذلك فخذوه سوى ما يأتيكم به أصحاب المعادن.
فإن معادن الدنيا أكثر من ذلك وما فيها مما لا تعلمون به أكثر وأعظم مما كلفتم من صنعة هذه المدينة قال: فخرجوا من عنده فكتب منه إلى كل ملك في الدنيا يأمره أن يجمع ما في بلاده من جوهرها ويحفر معادنها فانطلق أولئك القهارمة فبعثوا بكل كتاب إلى ملك من تلك الملوك.
وأخذ كل ملك ما يجد في يديه في ملكه عشر سنين حتى بعث إلى فعلة إرم ذات العماد بما قبله مما سأله من الزبرجد والياقوت واللؤلؤ والذهب والفضة، وأخذ القوم في طلبهم له مواضع فكلما أرادوا وضعه لهم من البساتين بساتين إرم ذات العماد وإجراء الأنهار وغرس الأشجار وحددوا على ما وصف لهم عشر سنين.
فقال له معاوية يا أبا إسحاق وكم كان عدد تلك الملوك التي كانت إرم قال: كانت مائتين وستين ملكا قسمها بينهم كل ملك منهم على حدة وما عليه من الخراج فقال له معاوية أتمم حديثك يا أبا إسحاق قال: فخرج عند ذلك الفعلة والقهارمة فتبددوا في الصحاري ليجدوا ما يوافقه.
فلم يجدوا ذلك حتى وقفوا على صحراء عظيمة نقية من الجبال والتلال، فإذا هم بعيون مطردة فقالوا هذه صفة إرم التي أمرنا بها فعمدوا فأخذوا بقدر الذي أمرهم من العرض والطول ثم جعلوا ذلك بحدود محدودة، ثم عمدوا إلى مواضع الأزقة التي فيها الحدود فأجروا فيها قنوات تلك الأنهار.
ثم وضعوا الأساس من الصخور الجزع اليماني وعبوا طين ذلك الأساس من مر ولبان ومحلب، فلما فرغوا مما وضعوا من الأساس وأجروا القنوات وأرسلت إليهم الملوك بالزبرجد والياقوت والذهب والفضة واللؤلؤ والجوهر.
كل ملك قد عمل ما كان في معدنه؛ فمنهم من بعث بالعمد مفروغ منها ومنهم من بعث بالذهب والفضة مفروغ منه مصنوعا، فدفعوه إلى تلك القهارمة والوزراء فأقاموا فيها حتى فرغوا من بنائها.
وهي على تلك العمد وهي قصور من فوق القصور غرف ومن فوق الغرف غرف مبنية بالذهب والفضة والزبرجد والياقوت التي بعث بها الملوك فقال: معاوية يا أبا إسحاق والله إني لأحسبهم قد أقاموا في بنائها زمانا من الدهر.
قال: نعم يا أمير المؤمنين إني لأجد مكتوبا في التوراة أنهم أقاموا في بنائها وما أجلهم الملوك في الذي أمرهم من حمل ما في الدنيا إليه من كل زبرجد وياقوت ولؤلؤ وذهب وفضة حتى فرغوا منها أجده مكتوبا ثلاثمائة سنة، قال معاوية وكم كان عمر شداد بن عاد صاحبها.
قال: كان عمره تسعمائة سنة قال معاوية يا أبا إسحاق لقد أخبرتنا عجبا فحدثنا قال: يا أمير المؤمنين إنما سماها الله تعالى : إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ التي لم يعمل مثلها في البلاد للذي فيها من الزبرجد والياقوت وليس في الدنيا مدينة بالزبرجد غيرها ولا ياقوت غيرها.
فلذلك قال الله عز وجل: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ قال كعب يا أمير المؤمنين إنهم لما أتوه فأخبروه بفراغهم منها قال: انطلقوا فاجعلوا عليها حصنا واجعلوا حول الحصن ألف قصر عند كل قصر ألف علم يكون في قصر من تلك القصور وزير من وزرائي.
ويكون فوق كل علم منها ناطور قال: فرجعوا فعملوا تلك القصور والأعلام والحصن ثم أتوه فأخبروه بالفراغ مما أمرهم به قال: فأمر ألف وزير من أهل خاصته ومن يثق به أنه يتهيئوا إلى النقلة إلى إرم ذات العماد وأمر لتلك الأعلام برجال يسكنونها ويقيمون فيها ليلهم ونهارهم وأمر لهم بالعطاء والأرزاق والجهاز إلى تلك الأعلام.
قال: وأمر الملك من أراد من نسائه وخدمه بالجهاز إلى إرم ذات العماد فأقاموا في جهازهم إليها عشر سنين فسار الملك بمن أراد وخلف من قومه في عدن أبين والشجراء. كثر مما سار فلما استقل وسار إليها ليسكنها وبلغها إلا مسيرة يوم وليلة بعث الله -عز وجل- عليه وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعا.
ولم يبق منهم أحد ولم يدخل إرم ذات العماد ولا من كان معه ولم يقدر على أن يدخلها أحد منهم حتى الساعة فهذه صفة إرم ذات العماد يا أمير المؤمنين، وسيدخلها رجل من المسلمين يا أمير المؤمنين في زمانك هذا ويرى ما فيها ويحدث بما فيها ولا يصدق.
قال له معاوية يا أبا إسحاق هل تصفه؟ قال: نعم هو رجل أحمر أشقر قصير على حاجبيه خال وعلى عنقه خال يخرج ذلك الرجل في طلب إبل له في تلك الصحاري فيقع على إرم ذات العماد فيدخلها ويحمل مما فيها، والرجل جالس عندك يا أمير المؤمنين فالتفت كعب فرأى ذلك الرجل فقال هذا ذلك الرجل يا أمير المؤمنين واسأله عما حدثتك به.
فقال معاوية يا أبا إسحاق هذا من خدمي ولم يبال حتى قال: فقد دخلها وإلا فسيدخلها وسيدخلها أهل هذا الدين في آخر الزمان فقال له معاوية لقد فضلك الله يا أبا إسحاق على غيرك من العلماء ولقد أعطيت من علم الأولين والآخرين ما لم يعط أحد.
فقال له كعب والذي نفسي بيده ما خلق الله تعالى شيئا إلا وقد فسره في التوراة لعبده موسى -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام- تفسيرا يا أمير المؤمنين وإن القرآن لشدة ووعيد وكفى بالله وكيلا وشدة ووعيدا.


هكذا جاءت هذه الحكاية في تفسير هذه الآية: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ .
نرى أن هذه الحكاية أولا: أصلها لم يستفض. قصة هذا الرجل الذي خرج يطلب إبله ودخل في صحراء وفي أرض ليس فيها أحد وعثر على هذه المدينة ولما عثر عليها دخلها، لما وجدها لم يكن فيها أحد دخل بسيفه إلى آخر ما سمعنا من قصتها.
يظهر أن هذه من سائر القصص التي يجدها القصاص، وأنها ليست صحيحة وذلك لأنها لو كانت موجودة ما خفيت . يدعي بعض القصاص أنها اندثرت واندفنت، ويدَّعون أن هذا الذي هو شداد بن عاد عاد الأولى أنه كما سمعنا كلما ذكرت الجنة وكلما سمع ذكر الجنة التي في الآخرة خيل إليه أن يبني في الدنيا مثلها.
وأن يدخل الجنة التي في الآخرة أو يدخل مثلها في الدنيا وأنه بعدما ارتكزت هذه الفكرة في مخيلته عزم على أن يبني له جنة، واختار هذا المكان الذي هو مكان واسع والذي فيه رياح تضطرب وأنهار وعزم على أن يبنيها بناء مشيدا.
وأرسل كما سمعنا من يجمع له ما عند الملوك من الذهب واللؤلؤ والزبرجد والمرجان وأنواع الجواهر، وأنهم جمعوه وبنوا هذه الجنة وكان عنده عمال كثير قد يكونون كما يقال ألف أو ألوف من العمال أقاموا في بنائها عشر سنين.
ثم تمت وجرت فيها الأنهار والأشجار والثمار والقصور العلالي ونحوها، ولما توجه إليها عزما على أن يسكنها جاءه ملك الموت، ولم يسكنها واضمحلت، اندفنت دفنتها الرياح، وكذلك أيضا أخفيت على الناس. هذا خلاصة هذه القصة ويظهر أن هذا أيضا ليس بصحيح وأنه من جملة الأخبار التي ينقلونها عن كعب الأحبار وأنه لا صحة لهذه القصة.
هذا الرجل الذي ذهب يطلب إبله لا يعرف، وكذلك أيضا لو كانت موجودة لدل عليها الناس ولعرفت وكيف تختفي طوال هذه القرون ألوف السنين لا يعثر عليها أحد ولا يعرفها أحد، وإنما جاءها هذا الرجل ثم بعد ذلك خفيت ولا يدرى أين هي ولا يدرى ما حالها ولا متى حالها.
ويكون كعب الأحبار هو الذي يعرف خبرها ويعرف متى بنيت ويعرف أيضا متى تدخل من الذي يدخلها، والظاهر أن هذا من أحاديث القصاص أو أنه من الإسرائيليات التي يروونها ويحشدون فيها حكايات لا أصل لها.
الله تعالى ذكر أن عادا قد أوتوا قوة حتى تعجبهم قوتهم قال الله تعالى: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ يعني تكبروا وتجبروا وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً .
فقد أوتوا قوة ولكن لم يذكر أن من آثار قوتهم مثل هذه الجنة أو هذه المباني وما أشبهها، ولكن أوتوا قوة وكذلك في سورة الأعراف ذكر الله أنهم أعطوا بسطة في الأبدان في قول الله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً أي بسطة في الأجسام.
والصحيح أن المراد القوة البدنية وأما أنهم خلقهم أكبر من خلق غيرهم فلا صحة لذلك يوجد في بعض الحكايات أن الواحد منهم طوله خمسون ذراعا أو نحو ذلك، ولكن الصحيح أن هذا لم يثبت؛ بل إنهم بشر كسائر البشر وأنهم كنوع الإنسان.
لا يمكن أن يكون طولهم متفوقا على طول غيرهم، وقد ذكر الله تعالى بعدهم ثمود في قوله: وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي يعني الذين قطعوا الصخر بالوادي يعني بالوادي المعروف بالحجر.
وقد رأينا ورأى أكثركم قصور ثمود التي في الحجر وأنها ليست مرتفعة إذا دخلها الإنسان، وإذا يمد يده تصل يده سقفها ولو كانوا خلقهم طويل لما كانت هذه المساكن لهم، ينحتون من تلك الجبال كما في هذه الآية: جَابُوا الصَّخْرَ أي: قطعوا الصخر بالواد ويجعلون فيها مساكن يسكنونها.
ولا تزال تلك المساكن باقية مع أنها قليلة يعني يمكن أن تكون محصورة في عشرين أو نحوها، ومع ذلك ذكر الله أنهم جابوا الصخر يعني قطعوه مما يدل على قوتهم فيدل على أن عادا أيضا ليسوا ذوي قوة غريبة ولا ذوي خلقة عجيبة، بل خلقهم كسائر الناس يمكن أنهم أعطوا قوة ولكن ما ذكر من طول أحدهم ليس بصحيح.
وكذلك أيضا ما ذكر في بعض الكتب من خلق العمالقة، العمالقة الذين كانوا في فلسطين وفي عند المسجد الأقصى ما ذكر أيضا من طولهم وكبر أجسامهم غير صحيح.
ذكر بعض القصاص وبعض أهل السير الذين يذكرون القصص مثل الثعلبي في قصص الأنبياء المطبوع في تفسير قول الله تعالى حكاية عن موسى يَا قَوْم ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يعني أرض بيت المقدس وأنهم قالوا: إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ من هم؟ هم العمالقة.
ذكر في القصة أنهم قوم كبار وأن أجسادهم مرتفعة، وأنه واحد منهم جاء إلى جماعة من بني إسرائيل اثني عشر وأنه قبض الاثني عشر بيده وأنه أدخلهم في حجزته وأنه صار بهم اثني عشر جعلهم في حجزته هذا كله أيضا لا صحة له.
ذكر الله تعالى أنهم قوم جبارون ولكن ليس في خلقتهم شيء يخالف خلقة الناس، بل كان لهم يعني شيء من القوة، ولكن تلك الحكايات من الخرافات التي يذكرها هؤلاء القصاص ليرغبوا الناس في سماع قصصهم.
وبكل حال فإن هذا ليس بصحيح يعني ما ذكر من عجيب أو كبر خلق أو خلقة عاد إنما ذكر الله تعالى لهم أنهم زادهم في الخلق بسطة وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً كما ذكر ذلك أيضا في خلق أوفي قصة طالوت إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ يعنى أن الله زاده بسطة؛ معنى كبر الجسم جسامة وقوة وسمنا.
وأما أنه يطول يزيد طوله على الطول المعتاد فهذا مخالف لخلق الله تعالى، لا شك ثبت الحديث أن آدم كما ورد في الحديث: طوله ستون ذراعا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن يعني ينقصوا إلى أن وصل إلى هذه الحالة التي ثبت عليها.
وكذلك أيضا ما ذكروا في قصة عوج بن عنوج هذا أيضا لا صحة له حيث ذكروا أن طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراع وثلث ذراع وذكروا أن الطوفان الذي أغرق به قوم نوح ما وصل إلى ركبته، وذكروا أنه كان يأخذ السمك الكبير بيده من لجة البحر فيرفعها حتى يستوي يشويه في حر الشمس ثم يأكله.
كل هذا أيضا لا صحة له مخالف لما جاء في هذا الحديث : لم يزل الخلق ينقص حتى الآن فنعرف أن ما ذكر من خلقة عاد أنه لا أصل له، وإنما هم كسائر الناس الذين لهم أعطاهم الله قوة وأما الطول الزائد المخالف لخلقة الإنسان فليس بصحيح.
أسئـلة
س: بسم الله الرحمن الرحيم سائل يقول: هل يرى فضيلتكم دخول ديار المعذبين كديار ثمود في الحجر وذلك بقصد الاتعاظ والاعتبار خاصة وأنه شاع الآن ما يسمى بعلم الآثار والاهتمام بها حتى أنفقت عليها الأموال الطائلة؟
لنرى أنه لا بأس بدخولها للاعتبار ولكن مع الخوف، لما مر به النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك نهى عن دخولها وقال: لا تدخلوا بيوت المغضوب عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين .
يعني أن تدخلوها للاعتبار ويكون معكم حزن وخوف واتعاظ واعتبار، وأما سكناها فلا تجوز يعني لا يجوز أن يستقر فيها ولذلك ورد النهي عن السكنى فيها مخافة أن يصاب بمثلها، ولا شك أنها تدل على ما فيه أولئك من القوة والتمكن، وفي ذلك عبرة للمعتبرين. نعم.
س: هل الصخرة التي في بيت المقدس مرتفعة بدون أعمدة وإن كانت كذلك فهل هناك زمن لسقوطها؟
ليس كذلك بل هي على وجه الأرض ولم يقل أحد أن هناك شيئا معلقا بين السماء والأرض من الجبال أو نحوها. نعم.

line-bottom